F1.. صراع الأجيال ضد كارت الحظ وسباق الزمن

في عام 2006، قدّم المخرج، الشاب آنذاك، جوزيف كوسينسكي، الفيديو الترويجي للعبة الفيديو الشهيرة Gears of War، على أنغام أغنية Mad World بصوت جاري جولز، كان الإعلان ببساطة عن مقاتل في عالم ما بعد الكارثة، يستيقظ في خضم معركة يبدو أنه لا يعلم كيف بدأت، لكنه مضطر أن يستمر في الركض والقتال حتى النهاية.
يبدو أن ما قدّمه جوزيف في هذا الفيديو، لن يبتعد كثيراً عن تفضيلاته الدرامية فيما بعد، خلال مشواره الذي قارب العشرين عاماً الآن، وحقق من خلال بعض محطاته ما يزيد عن 2 مليار دولار من الإيرادات.
في فيلمه الجديد F1: The Movie، الذي شارك في كتابة السيناريو الخاص به، يأتي ذكر "الذئب المنفرد" كصفة لصيقة بالبطل سوني هاينز – براد بيت – السائق العجوز الذي ينضم إلى أحد فرق الفورميلا من أجل تحقيق انتصار أخير، لا على المنافسين في السباق ولا على الشركات التي ترغب في شراء الفريق بثمن بخس، ولكن على عنصرين أساسيين: الحظ والزمن.
في أكثر من تجربة إخراجية – سواء بالمشاركة في السيناريو أو لا – دائماً ما نرى بطل جوزيف يستيقظ في خضم معركة، تماماً مثل بطل الفيديو الترويجي الأول، سواء كان هذا الاستيقاظ مادياً أو معنوياً مكللاً بمجاز واضح.
في عام 2013، قدّم مع توم كروز فيلمهما Oblivion، الذي تدور أحداثه في مستقبل قريب، حيث يعيش طيار مقاتل ضمن منظومة حماية مشروع ضخم لإخلاء الأرض، حياة مزدوجة بين ماضيه الذي يطارده في هيئة ذكريات وأحلام وكوابيس، وبين حاضر يكتشف أنه ليس سوى كذبة كبيرة، فينضم إلى من كان يظن أنهم أعداؤه.
وبعد 10 سنوات، يقدّم مع كروز أيضاً الجزء الثاني من Top Gun، الذي حمل اسم الشخصية الأشهر للفيلم الكلاسيكي الكبير مافريك، حيث يعود الطيار العجوز ليقود مجموعة قتالية شابة من أجل تحقيق انتصار أخير يحتاج إلى خبرته الطويلة وماضيه المرتبك.
هكذا يمكن أن نمد خط "الذئب المنفرد" على استقامته بين أكثر من تجربة هامة للمخرج الأميركي، الذي يثبت كل بضع سنوات أن لديه ما يمكن أن نتتبعه وسط طوفان الأدرينالين الهائل الذي يغمر به المتفرج، سواء في السماء المفتوحة أو داخل حلبات السباق الأشهر المغلقة، والتي بدت عبر براعة مونتاجية فائقة وكأنها تمتد إلى ما لا نهاية.
كوتشينة الحظ
"يجب الاعتماد على الحظ بقدر الاعتماد على المكابح والإطارات في هذه الحلبة".
هكذا يقول المعلق الخاص بسباق الفورميلا، والذي يأتينا صوته دائماً خلال السباقات أثناء المنافسة القتالية العنيفة – يستخدم جوزيف في الفيلم كلمة "القتال" أكثر من مرة، ويدعّم بالتصوير والمونتاج لحظات اشتباك السيارات، كأننا أمام معركة عسكرية لا لعبة رياضية ترفيهية بالأساس.
الحديث عن الحظ الذي يحتاجه المتسابقون في الحلبة يبدأ تقريباً مع بداية تعرفنا على سوني، حيث نراه وهو يحمل دوماً كارت كوتشينة في جيب بنطاله قبل دخول أي سباق، حتى تلك السباقات المحلية التي تبدو مثل حالة سبات زمني طويل، قبل أن توقظه منها زيارة زميله القديم (خافيير بارديم)، الذي يستدعيه لكي يعود إلى الفورميلا عقب 30 عاماً من اختفائه الغريب.
الكوتشينة في الفيلم هي المعادل المادي للحظ، وهي مجاز يُعاد إنتاجه بشكل جيد طوال رحلة سوني لهزيمة الشر الأكبر في حياته – الحادثة التي أدت إلى كسور رهيبة في جسده وحطّمت نجوميته في بداية مشواره الوحيد.
الحادثة التي تتجلى في أكثر من هيئة، بداية من ذكريات سوني وكوابيسه، مروراً بالفيديو الذي يشاهده زميله الشاب الأسمر في الفريق جوجو، وصولاً إلى تقرير الإصابة الذي يقرأه صديقه بصوت مرتفع، ليواجهه بأن موافقته على الاشتراك في السباق كانت خطيئة في حق نفسه والفريق.
يمكن القول إن ظهور توم كروز في العرض الدعائي للفيلم لم يكن مجرد تشجيع لأصدقائه جوزيف وبراد بيت – الذي يحاول عبر هذا الفيلم تعويض غيابه اللافت عن تصدّر الشاشات بأفلام ذات قيمة مضافة، سواء فنية أو تجارية – بل إن مشاهدة الفيلم تجعلنا نتفهم هذا الظهور بشكل أكثر عمقاً، فسوني هاينز هو نفسه مافريك، أو لنقل هو وجهه الأخير.
أحدهم يحلق والآخر يقود، لكن رغبتهما واحدة في اللحاق بما تبقى من أحلامهما التي يأكلها العمر المتقدم، وحميتهما متطابقة في الهرب من ماضٍ يسكن ذاكرة لا تعرف سوى الوجوه القديمة.
كلاهما مقامر ومغامر وعنيف، ذئب منفرد غير قابل للترويض أو الانصياع، وقبوله العودة للقطيع مشروط بتحكماته وحكمته التي استخلصها وحيداً وقت عزلته أو سباته.
في أوقات فراغه، وفي لحظات الاستعداد لكل سباق، نرى هاينز وهو يحاول إصابة طبق الفاكهة بكروت الكوتشينة التي لا تفارقه، كأنه يقذف شجرة الحياة المثمرة بكارت الحظ المراوغ، وفي المرة الوحيدة التي ينسى فيها أن يضع أحد الكروت في جيب بنطاله كما تعوّد، يتعرض لحادث يكاد يودي بحياته!
وحين تستدعيه مديرة الفريق الجميلة لكي تصالحه على زميله الشاب – في صراع أجيال واضح بدأه جوزيف مع مافريك – نجدها تجمعهم حول لعبة بوكر ودية، تنقلب إلى تراشق ناري بالعيوب بينهم، لكن هاينز يحسمه بالتنازل لصالح جوجو، رغم أنه كان يحمل أوراقاً فائزة – دلالة على أن عنفه ليس شراً في ذاته، بل حكمة مذابة تستحق احتمال صهدها الحار.
اللافت أيضاً في العلاقة بين "الذئب المنفرد" والحظ في فورميلا أن كوسينسكي لا يجعلنا نرى، ولو لمرة واحدة، شكل الكارت الذي يحمله هاينز في جيبه وقت السباقات، والذي يأخذه بشكل عشوائي من الكوتشينة التي لا تفارقه.
هكذا تبدو المفارقة الحلوة التي تصنع أكثر من مجرد فيلم سباقات بتقنيات تصوير ومونتاج فائقة الجاذبية، الأمر يبدو وكأن الفيلم يمنحنا إشارة أن لكل منا كارت حظه المميز والمرتبط بطموحاتنا وأحلامنا وحتى بماضينا نفسه، ولو أننا شاهدنا الكارت الخاص بهاينز لانطبع في رأسنا أو صار أيقونة تخصه بمفرده، لكن إخفاءه عنا طوال الوقت يجعل المشاهد يتمثّل الشكل أو الرقم الذي يناسب خياله أو تميمة حظه.
الأب / الزمن
في فيلمه الأول Tron: Legacy الذي قدّمه عام 2010، يجد بطل الفيلم / الابن نفسه داخل عالم افتراضي من تأسيس الأب الراحل، الذي كان مبرمجاً استطاع أن يخلق هذا العالم تاركاً إياه كميراث لابنه.
وبدخول الابن إلى عالم Tron، يواجه كل ما ظن أن أباه كان يخفيه عنه، إنها محنة الأب والابن كما ترد في العديد من الميثولوجيات والأساطير وخلفيات الأديان، الأب هنا هو خليط من الاختبار والزمن، الماضي الذي يتكشّف أو يطارد أن يلقي بظلاله على حاضر ملتبس وغير مريح.
وفي F1، يجمع جوزيف كوسينسكي بين الأب والزمن في سياق مجازي واحد يتمثل في صورة هاينز وهو صغير، والتي تبدو مع أبيه، والساعة/ الزمن التي يحتفظ بها – حتى إن أحدهم يعرض عليه ساعة في نهاية سباق محلي فاز به، فيقول له: "شكراً.. لدي ساعة".
هنا نعرف قيمة الساعة التي يحرص المخرج على تصويرها دائماً بجانب صورة الأب، لتصبح: الصورة/ الأب، الكوتشينة/ الحظ، الساعة/ الزمن، هي المجازات التي يخلق من خلالها المخرج عناصر المثلث الذي لا يشكّل فقط شخصية هاينز، ولكن تحدياته وأحلامه وماضيه.
ربما لهذا يبحث هاينز عن لحظات النقاء الصوفي الشاعرية التي يحدث عنها مديرة الفريق، التي تبرعمت بينهما زهرة المودة والحميمية والارتياح الروحي والجسدي.
يقول هاينز: "طالما أنا أقود، فأنا بخير"؛ القيادة بالنسبة للشخصية تتحول لا إلى فعل هروبي، ولكن إلى درجة من السمو والنيرفانا الحقة.
يصفها هاينز لصديقته بالكلمات؛ عن الصمت الذي يتسرّب إلى داخل السيارة، والهدوء الذي يعزل أصوات المحرك والجمهور والإذاعة الداخلية، عن السيطرة الكاملة والتوحّد مع لحظة التحليق داخل حلبة أرضية.
بهذا الحوار، يؤسس المخرج في مخيلة المتفرج إرهاصاً للحظة الذروة التي تفصل ما بين هاينز وبين تحقيق حلمه وحلم الفريق، لحظة الانفراد بالحلبة في النهاية، والقيادة في سحابية وصمت، بعيداً عن كل ما له علاقة بالسباق وعنف الوقود، ينطلق كأنما بين النجوم، في فضاء أشبه بثقب أسود ينحرف فيه الزمكان مع انحراف الحلبة، إلى أن تتحقق اللحظة ويتدفق السمو والانتصار.
لا يتحدث هاينز عن أبيه، لكن صورتهما الحاضرة تشي بعمق العلاقة وقوة السؤال الذي يراوده: ما الذي حققته يا أبي، أو ما الذي تبقى لكي أحققه؟ ثم الساعة التي هي نضاله ضد الوقت المتطاير، والشعور بالعجز الذي يقاومه بالرياضة والجري وتدريب الأيدي على سرعة رد الفعل عبر تقاذف كرات التنس.
يبدو هاينز كمن يعيش زمنه الخاص؛ التسعينات الجميلة التي شهدت مولد نجوميته وانطفاءها، ليس لديه علاقة بالسوشيال ميديا – بل يتندر في صراعه مع جوجو على الموبايل الذي لا يفارقه، وعلى الضوضاء التي تنبعث من هذا الجهاز اللعين ليل نهار، ولا تترك له فرصة أن يقود.. فقط يقود!
الممتع في السيناريو أن سوني، رغم رفضه أن يكون وصياً على جوجو، إلا أنه يلعب بشكل غير مباشر دور الأب! أو المنتور/ الدليل، الذي يُصلح من شأن العلاقة بين جوجو وبين ذاته، وبينه وبين العالم، الذي لا يعرف سوى نجومية التواصل الاجتماعي وشهرة المنصات الملعونة.
يضع جوجو على عينيه طوال الوقت نظارة سوداء، ربما هي مجاز لرفضه أن يرى ما يقدمه له سوني من خلاصة حكمته، وليس فقط خبراته الطويلة مع عجلة القيادة.
بلعب هاينز دور الأب الذي يفتقده، ينصح ويعنف ويصطدم ويفرض رأيه، تاركاً جوجو يدرك في النهاية حقيقة الأمر: لا يوجد صراع بين الأجيال، ولكن تكامل، ما يبدأه الذين سبقوك عليك أن تستكمله بشكل أو بآخر، دون أن تترك العالم يُشتت عينيك عن الطريق، لأن المنحنيات أخطر من أن تُعامل بالغرور أو بصور الإنستجرام.
تبقى الإشارة إلى أن الفيلم يضع جانباً بعضاً من بنود الصوابية السياسية التي دأبت هوليود على الالتزام بها خلال العقد الأخير؛ لدينا سوني/ الأب الأبيض الحكيم، فائق الخبرة والعنف والصدامية، في مقابل جوجو الأسمر، ابن زمن التواصل الاجتماعي والنجومية الهشة، والموهبة المعاد تشكيلها عبر الدعاية الصاخبة.
لدينا فوز الرجل الأبيض في النهاية، رغم تكريس كل المحاولات لصالح حلول الأسمر ملكاً متوجاً، يبدو أن للصوابية حدوداً في بعض الأحيان.
ثمة تبجيل طيب لجيل التسعينات، الذي يمثل براد بيت واحداً من أيقونته، ولا تغيب الفروقات بين جيل إكس، المتمثل في هاينز، وجيل الألفية، المتمثل في جوجو، عن الصدام العلني، حيث ديالوجات حوارية تحمل قدراً لا بأس به من السخرية والتنمّر، يتراشق بها ممثلو الجيلين، لكنها في النهاية تذوب في حالة من السلام الظاهري، وإن كان الفيلم يُطوّب جيل إكس/ التسعينات الرائع، تاركاً جيل الألفية/ جوجو يرفل في عباءة غروره التي لا أحد يدري متى سوف تسقط، ولا ما سوف تكشفه ساعتها من عوار حضاري.
المزيد : فن ومشاهير
تعليقات
إرسال تعليق